تحت الركام
يصحو من غفوته، بالكاد يستطيع أن يتنفس بسبب الركام الجاثم على ظهره، حاول أن يسحب جسده فلم يفلح، وشعر بألم شديد في نصفه السفلي، بقي منبطحا على بطنه وركام منزله يكاد يخنقه. نظر من شق صغير كوّنه الطوب حوله، فرأى من خلاله شارع الحي وبعض بيوت جيرانه.
حاول تذكر ما جرى... كان آخر ما سمعه صوت انفجار قوي ثم انهيار السقف والجدران، ففهم أن قذيفةً سقطت على منزله ودمرته فوق رأسه.
ينظر من الشق، يجد الهدوء يلف المكان، ثم يبدده صوت سيارة إسعاف تمر في الشارع: "لا بد أنها آتية لانتشالي". وفجأة زلزلت الأرض بفعل قذيفة أخرى، فسقطت طوبة أخرى زادت من ألم ساقيه، فشعر بشيء رطب يتسلل من تحته، مد يده فإذا هي بقعة دم، فساقاه تنزفان. تعود سيارة الإسعاف من ذات الشارع مسرعة وكأنها تسابق الريح، تختفي ثم يغيب صوتها في الأفق، فيوقن أنها لم تكن قادمة إليه.
"لماذا لم يعرفوا أني هنا؟ أين أمي؟ آه أذكر أنها خرجت مع أختي الصغيرة نور لتحضر الطحين كي تصنع الخبز الذي يشغلنا عن القصف الليلي. بالتأكيد ستأتي لتبحث عني، لأنها تعرف أني وحدي في البيت".
يرسل نظره من الشق: "سأناديها عندما تقترب من الركام، لا بد أنها في الطريق الآن. أذكُر أنها كانت ترتدي ثوبها المزركش وتغطي شعرها بمنديل بني، سأبدأ بالمناداة بمجرد أن أرى طرف ثوبها".
من الشق، وعلى الطرف الأيسر من الركام، يلمح دراجته التي كان يتباهي بها بين رفاقه في أزقة المخيم: "يبدو أنها تأثرت بسقوط الطوب عليها، أخشى أن تكون البدّالة قد عطبت، ماذا سأفعل عندها؟ سأصلحها عند جارنا أبو علي... لكني خاصمتُ ابنه حسام قبل بدء الحرب بسبب عدم رضاه عن نتيجة المباراة التي لعبناها في ساحة المخيم... اشتقتُ لحسام، نحن دائما نتخاصم ثم نتصالح، سأتصالح معه عندما أخرج من هنا، ولن أتخاصم معه".
يسمع صوت القذائف من بعيد، ويرى أعمدة الدخان تتصاعد في الأفق، تلونها الشمس بلون برتقالي وتُحيل البحر إلى لآلئ متوهجة كالحمم التي تُطلقها الطائرات في السماء. يتذكرُ البحرَ الذي كثيرا ما بنى من رمله بيتا لنور، وغطس مع أصدقائه وراء أسماكه الفضية: "في الصيف المقبل، سيُطلق سراح أبي، سأشتري شبكة أصيد بها أسماكا كثيرة.. أشعر بعطش وبرد شديدين، بقعة الدم تزحف وتبلل كل ملابسي.. هبط الليل ولم تأتِ أمي بعد، لماذا لم تأتِ؟ هل اعتَقَدت أني تمكنتُ من النجاة؟ ثوبها المزركش لن يكون واضحا في العتمة التي تلف المخيم.. البرد شديد جدا".
يصحو مرة أخرى على أصوات القذائف، الليل قد هبط تماما، لكن القمر يطل عليه من الشق الصغير بأشعته الفضية، يحدق به وينير الشارع الذي كان يضج بصوته ذات يوم: "ما أجمَلَك، هل رفضتَ أن تغرق غزة في الظلام؟ يُذكرني شكلك المستدير وأنت في وسط السماء بليالي الصيف الحارة التي نشتم فيها رائحة البحر في كل مكان. أذكرك كيف كنت تُنير لنا سطح البيت وأنا ألعب مع أختي وأبناء الأعمام والجيران، كنا نلعب حتى ينال منا التعب، ثم نلتصق بالكبار ونستمع إلى أحاديثهم حتى ننام على أصواتهم وهم يتسامرون وأنت تستمع إليهم. أين هم الآن؟ هل يريدون أن يعاقبوني بسبب شقاوتي؟ ماذا أفعل؟ هم يسمونها شقاوة لكني أسميها لعبا، أحب أن ألعبَ وأقفزَ وأشد ضفيرتَي نور. لكن.. أعلن التوبة، سأكف عن شقاواتي كلها، فقط أخرجوني من هنا.. حتى أستاذ الرياضيات، لن أشاكسه بعد اليوم.. فقط أريد أن أبقى معكم".
يصحو على صوت العصافير تزقزق قرب الشق بصوت عالٍ وتضرب بأجنحتها وكأنها تطلب النجدة، يحاول أن يرفع رأسه، يشتم رائحة الدم، لقد وصلت بركة الدم إلى وجهه، وساقاه لا يشعر بهما.. تبدو العصافير ثائرة جدا: "ماذا تريدين أيتها العصافير؟ لو كنتِ تتحدثين لغة البشر، لطلبت منكِ أن تذهبي لأمي وتقولي لها إن ابنكِ تحت ركام البيت، وإنه يعدكِ بأن يكف عن شقاوته. لكنكِ لا تتحدثين لغة البشر، لو كنتِ تتحدثينها لطلبت منك أن تقولي لها إني لا أحب رائحة الدم، وإني لم ألطخ ملابسي بإرادتي، فدمي هو الذي زحف إليها... أم أنكِ أيضا غاضبة مني أيتها العصافير؟ ألأني كنت أصطادك؟ أنا أعتذر لكِ، أرجوكِ سامحيني.. فقد توقفتُ عن صيدكِ منذ أن فَتَح جارنا عصام محل الإنترنت الذي تعرفتُ من خلاله على أصدقاء كثيرين في رام الله والقدس وحيفا والسعودية والكويت.. آه صحيح.. اليوم تبدأ مباريات كأس الخليج، وقد تعاهدنا أنا وصديقي جاسم من الإمارات أن نحضر المباراة بين الإمارات والسعودية. كما سيلعب فريقي المفضل ريال مدريد مع مايوركا.. لو أن أمي تأتي الآن؟ من المؤكد أنها ستأخذني للمستشفى، قد أبقى هناك عدة أيام.. لا يهم.. سيكون بإمكاني متابعة المباريات، لأن غُرف المستشفى فيها تلفزيونات، رأيتها عندما زرت أمي بعد أن ولدت أختي نور.. يومها أكلت كل الحلوى التي كانت تحتفظ بها أمي للمهنئين، لو أني أحصل على حبة واحدة الآن.. لو أني أشرب شربة ماء.. لو أني أستطيع أن أتنفس فقط...
تنهمر المزيد من القذائف، وسيارات الإسعاف تجوب الشوارع.. تدلهمّ السماء فيسقط مطر غزير يختلط بالدخان الأسود والأبيض، ويحجب رؤية البحر من شق الركام، وتغيب الشمس مبكرا، ويهبط الليل، ويتوارى القمر حزنا وراء السحاب، ويفوز ريال مدريد وتفوز الإمارات.
وفي الصباح، تطل الشمس خجولة من وراء البحر، تلوّن سحب الدخان، وترسل أشعتها إلى الشق الذي عادت إليه العصافير، وقد ثقلت أجنحتها، تحوم وتزقزق بهدوء لئلا توقظ النائم الصغير، ثم تطير إلى ذلك الشارع القريب وتحلق فوق جنازة لنَعْشٍ كبير يطل منه ثوب مزركش وآخر صغير تطل منه ضفيرتان صغيرتان.