ملامح بلاغية من سورة الفاتحة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
تسميتها:
فأما تسميتها فاتحة الكتاب، فقد ثبت في السنة في أحاديث كثيرة منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" "متفق عليه". وفاتحة مشتقة من الفتح، وهو إزالة حاجز عن مكان مقصود، وتستعمل في معنى أول الشيء تشبيهًا للأول بالفاتح؛ لأن الفاتح للباب هو أول من يدخل. ومعنى فتحها الكتاب أنها جُعلت أول القرآن لمن أراد أن يقرأ القرآن من أوله، فتكون فاتحة بالجعل النبوي في ترتيب السور.
وأما تسميتها "أم القرآن" و"أم الكتاب" فقد ثبت في السنة، كما في صحيح البخاري، أن أبا سعيد الخدري رقّى ملدوغا، فجعل يقرأ عليه أم القرآن.
ووجه التسمية بـ"أم القرآن" أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئه، وفي الحديث: "مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهْي خِدَاجٌ" "رواه مسلم"، وذكروا أوجهًا لذلك فقالوا:
1- إنها مبدؤه ومفتتحه، فكأنها أصله ومنشؤه، يعني أن افتتاحه هو وجود أول أجزاء القرآن قد ظهر فيها، فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ.
2- أنها تحتوي على أنواع مقاصد القرآن، وهي ثلاثة أنواع:
- الثناء على الله لوصفه بجميع المحامد، وتنزيهه عن جميع النقائص، ولإثبات تفرده بالإلهية، وإثبات البعث والجزاء، وذلك من قوله: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" إلى قوله: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" "الفاتحة:2- 4".
- الأوامر والنواهي قوله: "إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" "الفاتحة:5".
- الوعد والوعيد قوله: "صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ" "الفاتحة:7".
3- أنها تشتمل على جملة معاني القرآن من الحِكَم النظرية، والأحكام العملية؛ فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها، وإما أحكام يقصد منها العمل بها.
- فالعلوم كالتوحيد، والصفات، والنبوات، والمواعظ، والأمثال، والحكم، والقصص.
- والأحكام إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات، وإما عمل القلوب أو العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة.
وأما تسميتها السبع المثاني فهي ثابتة في السنة: ففي البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِي السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ". ووجه التسمية أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين، وأما وصفها بـ"المثاني"، فهو جمع مثنى، أي أنها تثنى في كل ركعة، أي: تضم إليها السورة في كل ركعة. وقيل: لعل التسمية بذلك كانت في أول فرض الصلاة، فإن الصلوات فرضت ركعتين، ثم أقرت صلاة السفر، وأطيلت صلاة الحضر كما ثبت في حديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيح. وقيل: لأنها تُثنى في الصلاة أي: تكرر، فتكون التثنية بمعنى التكرير، وذلك كقوله تعالى: "كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ" "الزمر:23"، أي: مكرر القصص والأغراض.
هذه السورة وضعت في أول السور؛ لأنها تنزل منزلة ديباجة الخطبة، أو الكتاب مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن كما سبق، وفيها براعة استهلال لبيان ما يتضمنه القرآن.
البسملة:
اسم لكلمة "باسم الله" وصيغ هذا الاسم من حروف الكلمتين "باسم" و"الله" على طريقة تسمى النحت، وهو صوغ فعل ماضٍ على زنة "فعلل" مكونة من حروف جملة، أو مركب إضافي اختصارًا عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف، وذلك مثل "عبشمي" من عبد شمس، و"عبدري" من عبد الدار، و"حضرمي" من حضر موت، ومنها "سبحل" من سبحان الله، و"هيعل" من حي على الصلاة، و"حوقل" من لا حول ولا قوة إلا بالله.
البسملة سُنت عند ابتداء الأعمال الصالحة: وقد حكى القرآن قول سحرة فرعون عند شروعهم في السحر بقوله: "فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ" "الشعراء:44"، وذكر صاحب الكشاف أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم باسم اللات والعزى.
وقال الأستاذ محمد عبده: "إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم، فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد عليهم بأن الإله واحد، وإن تعددت أسماؤه، فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات".
"باسم الله": الاسم لفظ يدل على ذات أو معنى، وهو مشتق من السمو، وهو العلو والرفعة.. "الله": لفظ الجلالة علم على ذات الخالق تفرد به –سبحانه-، ولا يطلق على غيره، ولا يشاركه فيه أحد. قال القرطبي -رحمه الله-: "هذا الاسم أكبر أسمائه -سبحانه- وأجمعها، حتى قال بعض العلماء إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يُثن ولم يجمع". فهو الاسم الجامع للصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، وفي الكلام حذف تقديره باسم الله أتلو أو أقرأ، وهذا الحذف له فائدة، وهي صلوحية البسملة ليبتدئ بها كل شارع في فعل. والباء في باسم للملابسة، وهي المصاحبة، وهي الإلصاق، وهي تعني زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه -تعالى-.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: صفتان مشتقتان من الرحمة، والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإحسان، وهذا المعنى غير لائق بالله -عز وجل-، ومذهب السلف أنها صفة قائمة بذات الله -تعالى-، لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإحسان. و﴿الرَّحْمَنِ﴾: بمعنى عظيم الرحمة؛ لأن "فعلان" صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ويلزم منه الدوام.
و﴿الرَّحِيمِ﴾: بمعنى دائم الرحمة؛ لأن صيغة "فعيل" تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف. فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمة، أو أن الرحمن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإحسان، والرحيم صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإحسان، وتعديهما إلى المنعم عليه. فلفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات، كما هو الشأن في أسماء الذات. قال- تعالى-: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" "طه:5".
أما وصف الرحيم فقد كثر استعماله وصفـًا فعليًا، وجاء في الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه. قال -تعالى-: "إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" "البقرة:143"، "وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمً" "الأحزاب:43".
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: ﴿الْحَمْدُ﴾ هو: الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.
﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: أي مالكهم؛ إذ الرب مصدر "ربه يربه" إذا تعاهده بالتربية حتى يبلغ به شيئًا فشيئًا درجة الكمال، وهو اسم من أسماء الله -تعالى-، لا يطلق على غيره إلا مقيدًا، فيقال: "رب الدار" أي: صاحبها، والرب في كلام العرب له معانٍ ثلاثة: السيد، المطاع، والرجل المصلح للشيء، والمالك للشيء. فربنا -جل ثناؤه- السيد، المطاع في خلقه، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر.
- و﴿الْعَالَمِينَ﴾: جمع عَالَم وهو كل موجود سوى الله، قال القرطبي: "وهو مأخوذ من العلم والعلامة؛ لأنه يدل على موجده". وافتتحت السورة بهذه الجملة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ لأنه -سبحانه- أول كل شيء، وآخر كل شيء، ولكي يعلمنا أن نبدأ كتبنا، وخطبنا بالحمد والثناء عليه، فالآية قررت ثبوت الثناء المطلق لله -تعالى-، وأنه ليس لأحد أن ينازعه إياه، وجملة الحمد لله مفيدة لقصر الحمد عليه نحو قولهم: الكرم في العرب. و"ال" في الحمد للاستغراق، أي: أن جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين، وإنما كان الحمد مقصورًا في الحقيقة على الله؛ لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه، ومرجعه إليه، فهو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم فهو في الحقيقة حمد لله؛ لأنه -سبحانه- هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
ولم تفتتح السورة بصيغ الأمر بأن يقال: "احمدوا الله"؛ لأن الأمر يقتضي التكليف، والتكليف قد تنفر منه النفوس أحيانًا، فأراد -سبحانه- وهو يبادئهم بشرعة جديدة أن يؤنسهم، ويؤلف قلوبهم ترفقا بهم، حتى يديموا الإصغاء لما سيلقيه عليهم من التكليف.
﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: أجرى على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين؛ ليكون كالاستدلال على استحقاقه -تعالى- للحمد وحده، وفي ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم، فكأنه يقول لهم: اجعلوا حمدكم وثناءكم لي وحدي؛ لأني أنا رب العالمين، وأنا الذي تعهدتكم برعايتي وتربيتي منذ تكوينكم من الطين، حتى استويتم عقلاء مفكرين.
﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: أتبع هذا الوصف رب العالمين بوصف آخر وهو الرحمن الرحيم؛ لحكم سامية، منها أنه وصفه -تعالى- برب العالمين أي: مالكهم قد يثير في النفوس شيئًا من الخوف والرهبة، فإن المربي قد يكون خشنًا جبارًا، وذلك مما يخدش من جميل التربية، وينقص من فضل التعهد؛ لذا قرن كونه مربيًا بكونه الرحمن الرحيم؛ لينفي بذلك هذا الاحتمال، وليحرضهم على حمده وعبادته بقلوب مطمئنة، ونفوس مبتهجة، ودعوة لهم إلى أن يقيموا حياتهم على الرحمة والإحسان، لا على الجبروت والطغيان، فالراحمون يرحمهم الله.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾: والمالك وصف من المِلك بكسر الميم، بمعنى حيازة الشيء مع القدرة على التصرف فيه، واليوم المراد به يوم القيامة، والدين الجزاء والحساب، يقال: دِنته بما صنع أي: جازيته على صنيعه، ومنه قولهم: "كما تدين تدان"، أي: كما تفعل تجازى. والمعنى أنه -تعالى- يتصرف في أمور يوم الدين من حساب، وثواب، وعقاب تصرف المالك فيما يملك، فكل شيء في ذلك اليوم يجري بأمره كما قال: "لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" "غافر:16"، وتخصيص المُلك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه؛ لأنه تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين؛ لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئًا، وتسمية غيره في الدنيا بملِك فعلى سبيل المجاز؛ كما قال -تعالى-: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا" "البقرة:247".
المتدبر لهذه الآية الكريمة يراها خير وسيلة لتربية الإنسان، وغرس الإيمان العميق في قلبه؛ لأنه إذا آمن بأن هناك يومًا يظهر فيه إحسان المحسن، وإساءة المسيء، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم لله الواحد القهار، فإنه في هذه الحالة سيقوى عنده خلق المراقبة لخالقه، ويجتهد في السير على الطريق المستقيم.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: الذي يجدر بنا أن نعبده، وأن نستعين به هو الله الذي تجلت أوصافه، ووضحت عظمته، وثبتت هيمنته على هذا الكون، وهذه العبادة الصحيحة تكون بتحقيق أمرين: إخلاصها لله، وموافقتها لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال ابن جرير -رحمه الله-: "لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، والاستعانة: طلب المعونة من أجل الاقتدار على الشيء، والتمكن من فعله، والمعنى لك يا ربنا وحدك نخشع ونذل ونستكين، فقد توليتنا برعايتك، وغمرتنا برحمتك، فنحن نخصك بطلب الاستعانة على طاعتك، وعلى أمورنا كلها". وقدم المعبود على العبادة فقال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾؛ لإفادة قصر العبادة عليه، وهو ما يقتضيه التوحيد الخالص.
وقال: ﴿نَعْبُدُ﴾ بنون الجماعة، ولم يقل: "أعبد"؛ ليدل على أن العبادة أحسن ما تكون في جماعة المؤمنين، وللإشعار بأن المؤمنين المخلصين يكونون في اتحادهم وإخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم في الحديث عن شؤونهم الظاهرة، وغير الظاهرة مقام جميعهم.
وقدمت العبادة على الاستعانة؛ لكون الأولى وسيلة للثانية، وتقديم الوسائل سبب في تحصيل المطالب؛ وليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات، بل إن عون الله هو الذي ييسر لهم أداءهم، ولم يذكر المستعان عليه من الأعمال؛ ليشمل كل ما تتجه إليه النفس من الأعمال الصالحة، وجاءت الآية بأسلوب الخطاب على طريقة الالتفات؛ تلوينًا لنظم الكلام من أسلوب إلى أسلوب؛ قال الزمخشري: "فإن قلتَ: لمَ عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلتُ: هذا يسمى الالتفات في علم البيان، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، وذلك على عادة العرب في افتنانهم في الكلام، وتصرفهم فيه، وذلك لتنشيط السامع، وإيقاظا للإصغاء".
قال بعض العلماء: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمات: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، ففيها التبرؤ من الشرك، والتبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾: بيَّن -عز وجل- أن أفضل شيء يطلبه العبد من ربه إنما هو هدايته إلى الطريق الذي يوصل إلى أسمى الغايات، وأعظم المقاصد.
﴿اهْدِنَا﴾: الهداية هي الإرشاد والدلالة في لطف على ما يوصل إلى البغية، وتسند إلى الله، وإلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإلى القرآن: "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ" "فصلت:17" أي بيَّنا لهم طريق الخير. وتأتي بمعنى الإلهام: "قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" "طه:49-50". وتأتي بمعنى الدعاء: "وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" "الرعد:7"، أي: داعٍ. "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" "الشورى:52".
﴿الصِّرَاطَ﴾: الجادة والطريق من سرط الشيء إذا ابتلعه، وسمي الطريق بذلك؛ لأنه يبتلع المارين فيه. و﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾: المعتدل الذي لا اعوجاج فيه.
﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾: النعمة لين العيش، ونعم الله كثيرة لا تحصى.
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾: الغضب هيجان النفس وثورتها عند الميل للانتقام، وهذا لا يليق بالله، فهو -الغضب- صفة لائقة بجلاله، لا نعلم حقيقتها، وإنما نعرف أثرها.
والمعنى: اهدنا يا رب إلى طريقك المستقيم الذي يوصلنا إلى سعادة الدنيا والآخرة، ويجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من خلقك، وجنبنا طريق الذين غضبت عليهم من الأمم السابقة، أو الأجيال اللاحقة؛ بسبب سوء أعمالهم، وفي هذا الدعاء أسمى أنواع الأدب؛ لأن هذا الدعاء قد تضرع به المؤمنون إلى خالقهم بعد أن اعترفوا له -سبحانه- قبل ذلك بأنه هو المستحق لجميع المحامد، وأنه رب العالمين، والمتصرف في أحوالهم يوم الدين.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذا أكمل أحوال السائلين أن يمدح مسؤوله، ثم يسأل حاجته، وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة، ولهذا أرشدنا الله إليه؛ لأنه الأكمل". ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنيًا عن ذكر الصراط؛ ليدل على أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم.
وقوله: ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾: أتى في وصف الإنعام بالفعل المسند إلى الله، وفي وصف الغضب باسم المفعول: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، وفي ذلك تعليم لأدب جميل، وهو أن يسند أفعال الإحسان إلى الله، ويتحاشى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء، وإن كان كل من الإحسان والعقاب صادرًا منه، ومن شواهد ذلك: "وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدً" "الجن:10".
منقوووووووووول