اختار أن يموت كما يريد تماما، واقفا وهو يقاتل. كان احمد سناكرة، الذي لم يتجاوز الـ 22 ربيعا، يقول انه يريد أن يقاتل حتى اليوم الأخير من حياته ونال مراده. وربما لفرط ما واجه الموت، وانتصاره عليه مرة تلو مرة، لم يعد يخشاه، بقدر ما كان «يكره البرد». كان ينتظر نوما طويلا وهادئا دافئا، فمثله لم يكن يعرف الدفء ولا الأمان لسنوات عديدة.
كان يقضي معظم لياليه مطاردا في العراء والبرد القارس، في مواجهة الموت في كل لحظة. ولا عجب، أن اجبر أمه على أن تقطع له قسما، قبل أيام من «استشهاده»، بان تغطيه في القبر بغطاء دافئ، قال لها «أريد نومة دافئة، وطويلة يا أمي». ووفق ما قاله شقيقه علاء، احد ابرز مطلوبي كتائب الأقصى في نابلس، لـ«الشرق الأوسط»، فقد فزعت الأم المفجوعة سريعا إلى المستشفى بقلب مكسور الذي كانت ترقد فيه جثته، كانت حريصة كل الحرص، على ان لا يتعرض احمد للبرد بعد وفاته لكرهه له .
ورفضت أن يوضع في ثلاجة الموتى أبدا، بناء على وصيته. وقال علاء «لم يكن يتخيل نفسه داخل ثلاجة، حتى وهو جثة». وتابع بعد لحظة صمت «كان يكره البرد».احمد سناكرة، ويناديه أهالي نابلس ورفاقه «سنكور»، تعود أن يسخر من أولئك الذين كانوا يتربصون به الموت، وفي كل مرة كان يستفزهم إلى حد الجنون. وحتى عند مقتله أول من أمس، ظنوا انه لن يقاتل طويلا، بيد واحدة فقط (أصابع يده اليمنى مبتورة أثناء احد الاشتباكات)، لكنه قاتل طويلا ولساعات بيده اليسرى.
قرر مرة أخرى أن ينتصر على الجنود الإسرائيليين بطريقته الخاصة. لم يسلم نفسه ولم يستسلم فقاتل حتى استشهد، تماما مثلما رفض أن يسلم نفسه في كل مرة. وأضاف علاء «لم يكن يريدونه حيا أصلا، لقد اتصل بي قبل 3 دقائق من استشهاده، حوالي 5.15 فجرا، وقال لي إن رجله قد قطعت، طلبت منه أن يسلم نفسه، فقال إن الجنود على مقربة منه».
وتابع القول «انقطع الاتصال، لقد أعدموه، كان الرصاص يملأ جسده الذي تعود الرصاص». يتذكر الفلسطينيون قصة احمد سناكر مع الجيش المدجج بالسلاح، عندما هدم مقاطعة نابلس فوق رأسه في يوليو (تموز) 2006. وحاصره تحت الأنقاض آنذاك 3 أيام. شاركت الدبابات والطائرات الحربية في الحصار، ضربوه بالصواريخ فلم ينفع فساوموه ولم يقبل. فناداه احد الجنود الإسرائيليين بلغة عربية، آنذاك، «يا أبو ايد مقطوعة، سلم نفسك». ثم قالوا له «يا سنكور، لدينا الماء، أخرج واشرب، وسنطعمك أيضا». وروى احمد سناكرة تجربته تلك، قائلا «انه بعد يوم ونصف اليوم من الحصار أصبح العطش عدوي الأول. ولأتغلب على مساومات الجنود، صرت أجمع بولي في حذائي وأشربه».
دفن نفسه في قبر اختياري، بينما ظلت القنابل تتساقط فوق رأسه، كان يعدها وقال (من 30 إلى 40 قذيفة في الساعة). ملأ التراب عينيه، فقطرهما بالبول، وملأ أذنيه، فأغلقهما بالضمادات التي كانت تدواي بعض جروحه السابقة.
أما أصعب المواقف، فقال «عندما أطلقوا علي كلب بوليسي، كنت حينها أختبأ بحفرة في نفق قديم، كانت هناك بعض القضبان الحديدية الملقاة بين الحجارة الكبيرة، جذبت إحدى القضبان بكل قوتي، عندها كان الكلب قد اقترب مني، فغرست قضيب الحديد في عينه لتخرج من أذنه، بعدها خفت أن يبدأ بالنباح، سيما أن هذه الكلاب مثبت على إذنيها لاسلكي لتستجيب لأوامر الضابط، فقمت بوضعه في حفرة المجاري التي أختبأ بها، ووضعت فوقه التراب والحجارة.
خرج سناكرة من تحت أنقاض المقاطعة بطلا، متخما بالجروح وكان يفاخر «خرجت وقهرتهم»، وحتى استشهاده.كان قد تعرض إلى 6 محاولات اغتيال، أصيب في احداها بجروح خطرة، كاد يقضي معها، لكن شقيقه إبراهيم هو الذياستشهدفيها وكان في يوم جمعة كما غادر احمد الدنيا في يوم الجمعة. وفي استقبال احمد تذكرت امه ابنها إبراهيم، إذ كان احمد يلبس سترته. ورغم استعداده للموت، كان يحب الحياة كثيرا، كما قال شقيقه علاء، وكان يخطط لدراسة الاقتصاد في جامعة النجاح. وكان يحب أن يظهر أنيقا دوما.
وكان يوم استشهاده، على موعد مع عملية تجميل ليده التي بتر منها 3 أصابع، ومع عملية أخرى لإزالة شظية قرب عينه. أعد «سنكور» كما يحب إن يسميه علاء، وصيته، وأجمل صوره، لوضعها في ملصق إعلان مقتله.
أوصى أهله بان يغنوا له في بيت العزاء أغنية طالما رددها «بدري عليك يا رفيق العمر بدري، ريت رصاص الغدر خلاك وصاب صدري». وطلب من حارس المقبرة، قبرا إلى جانب شقيقه إبراهيم، قال له «إياك إن تفرط بهذا القبر، اتركه لي».
رحمك الله يا فينيق نابلس