رجال حول الرسول
(
صلّى
الله
عليه وسلّم )
سعيد بن عامر
( العظمة تحت الأسمال
)
أيّنا سمع هذا الاسم, وأيّنا سمع به من قبل..؟
أغلب الظن أن
أكثرنا, إن لم نكن جميعا, لم نسمع به قط.. وكأني بكم
إذ تطالعونه الآن تتساءلون: ومن
يكون عامر هذا..؟؟
أجل سنعلم من هذا
السعيد..!!
إنه واحد من كبار الصحابة رضي الله عنهم, وان لم يكن لاسمه ذلك الرنين
المألوف لأسماء كبار الصحابة.
انه واحد من كبار
الأتقياء الأخفياء..!!
ولعل من نافلة
القول وتكراره, أن ننوه بملازمته رسول الله في جميع مشاهده وغزواته.. فذلك كان نهج
المسلمين جميعا. وما كان لمؤمن أن يتخلف عن رسول الله في سلم أو جهاد.
أسلم سعيد قبيل
فتح خيبر, ومنذ عانق
الإسلام وبايع الرسول, أعطاهما كل حياته, ووجوده ومصيره.
فالطاعة, والزهد,
والسمو.. والإخبات, والورع, والترفع.
كل الفضائل
العظيمة وجدت في هذا
الإنسان الطيب الطاهر أخا وصديقا كبيرا..
وحين نسعى للقاء
عظمته ورؤيتها, علينا أن نكون من الفطنة بحيث لا نخدع عن هذه العظمة وندعها تفلت
منا وتتنكر..
فحين تقع العين
على سعيد في الزحام, لن ترى شيئا يدعوها للتلبث والتأمل..
ستجد العين واحدا
من أفراد الكتيبة .. أشعث أغبر. . ليس في ملبسه, ولا في شكله
الخارجي, ما
يميزه عن فقراء المسلمين بشيء.!!
فإذا جعلنا من
ملبسه ومن شكله الخارجي دليلا على حقيقته, فلن نبصر شيئا, فان عظمة هذا الرجل أكثر
أصالة من أن تتبدى في أيّ من مظاهر البذخ والزخرف.
إنها هناك كامنة
مخبوءة وراء بساطته وأسماله.
أتعرفون اللؤلؤ
المخبوء في جوف الصدف..؟
إنه شيء يشبه هذا..
عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية عن ولاية الشام, تلفت
حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه.
وأسلوب عمر في
اختيار ولاته ومعاونيه, أسلوب يجمع أقصى غايات الحذر, والدقة, والأناة.. ذلك أنه
كان يؤمن أن أي خطأ يرتكبه والٍ في أقصى الأرض سيسأل عنه الله اثنين: عمر أولا..
وصاحب الخطأ ثانيا..
ومعاييره في تقييم الناس واختيار الولاة مرهفة, ومحيطة,وبصيرة, أكثر ما
يكون البصر حدة ونفاذا..
والشام يومئذ
حاضرة كبيرة, والحياة فيها قبل دخول
الإسلام بقرون, تتقلب بين حضارات متساوقة.. وهي
مركز هام لتجارة. ومرتع رحيب للنعمة.. وهي بهذا, ولهذا درء
إغراء. ولا يصلح لها في
رأي عمر إلا قديس تفر كل شياطين
الإغراء أمام عزوفه..
وإلا زاهد, عابد, قانت,
أواب..
وصاح عمر: قد
وجدته, إليّ بسعيد بن عامر..!!
وفيما بعد يجيء
سعيد إلى أمير المؤمنين ويعرض عليه ولاية حمص..
ولكن سعيدا يعتذر
ويقول: " لا تفتنّي يا أمير المؤمنين"..
فيصيح به عمر:
" والله لا أدعك.. أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي.. ثم تتركوني"..؟؟!!
واقتنع سعيد في لحظة, فقد كانت كلمات عمر حريّة بهذا
الإقناع.
أجل. ليس من
العدل أن يقلدوه أمانتهم وخلافتهم, ثم يتركوه وحيدا..وإذا انفض عن مسؤولية الحكم
أمثال سعيد بن عامر, فأنّى لعمر من يعينه على تبعات الحكم الثقال..؟؟
خرج سعيد
إلى حمص
ومعه زوجته, وكانا عروسين جديدين, وكانت عروسه منذ طفولتها فائقة الجمال والنضرة..
وزوّده عمر بقدر طيّب من المال.
ولما استقرّا في
حمص أرادت زوجته أن تستعمل حقها كزوجة في استثمار المال الذي زوده به عمر.. وأشارت
عليه بأن يشتري ما يلزمهما من لباس لائق, ومتاع وأثاث.. ثم يدخر الباقي..
وقال لها سعيد:
ألا أدلك على خير من هذا..؟؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة, وسوقها رائجة, فلنعط المال
من يتاجر لنا فيه وينمّيه..
قالت: وإن خسرت
تجارته..؟
قال سعيد: سأجعل
ضمانا عليه..!!
قالت: فنعم
إذن..
وخرج سعيد فاشترى
بعض ضروريات عيشه المتقشف, ثم فرق جميع المال في الفقراء والمحتاجين..
ومرّت الأيام.. وبين الحين والحين تسأله زوجه عن تجارتهما وأيّان بلغت من
الأرباح..
ويجيبها سعيد:
إنها تجارة موفقة.. وإن الرباح تنمو وتزيد.
وذات يوم سألته
نفس السؤال أمام قريب له كان يعرف حقيقة الأمر فابتسم. ثم ضحك ضحكة أوحت
إلى روع
الزوجة بالشك والريب, فألحت عليه أن يصارحها الحديث, فقال لها: لقد تصدق بماله جميعه
من ذلك اليوم البعيد.
فبكت زوجة سعيد,
وآسفها أنها لم تذهب من هذا المال بطائل فلا هي ابتاعت لنفسها ما تريد,
وإلا المال
بقي..
ونظر
إليها سعيد
وقد زادتها دموعها الوديعة الآسية جمالا وروعة.
وقبل أن ينال
المشهد الفاتن من نفسه ضعفا, ألقى بصيرته نحو الجنة فرأى فيها أصحابه السابقين
الراحلين فقال:
" لقد كان لي أصحاب سبقوني
إلى الله... وما أحب أن أنحرف عن طريقهم ولو
كانت لي الدنيا بما فيها"..!!
وإذ خشي أن تدل عليه بجمالها, وكأنه يوجه الحديث
إلى نفسه معها:
" تعلمين أن في الجنة من الحور العين والخيرات الحسان, ما لو أطلت واحدة
منهن على الأرض لأضاءتها جميعا, ولقهر نورها نور الشمس والقمر معا.. فلأن أضحي بك
من أجلهن, أحرى أولى من أن أضحي بهن من أجلك"..!!
وأنهى حديثه كما
بدأه, هادئا مبتسما راضيا..
وسكنت زوجته,
وأدركت أنه لا شيء أفضل لهما من السير في طريق سعيد, وحمل النفس على محاكاته في
زهده وتقواه..!!
كانت حمص أيامئذ, توصف بأنها الكوفة الثانية وسبب هذا الوصف, كثرة تمرّد
أهلها واختلافهم على ولاتهم.
ولما كانت الكوفة
في العراق صاحبة السبق في هذا التمرد فقد أخذت حمص اسمها لما شابهتها...
وعلى الرغم من
ولع الحمصيين بالتمرّد كما ذكرنا, فقد هدى الله قلوبهم لعبده الصالح سعيد, فأحبوه
وأطاعوه.
ولقد سأله عمر
يوما فقال: " إن أهل الشام يحبونك".؟
فأجابه سعيد
قائلا:" لأني أعاونهم وأواسيهم"..!
بيد أن مهما يكن
أهل حمص حب لسعيد, فلا مفر من أن يكون هناك بعض التذمر والشكوى.. على الأقل لتثبت
حمص أنها لا تزال
المنافس القوي لكوفة العراق...
وتقدم البعض
يشكون منه, وكانت شكوى مباركة, فقد كشفت عن جانب من عظمة الرجل, عجيب عجيب جدا..
طلب عمر من
الزمرة الشاكية أن تعدد نقاط شكواها, واحدة واحدة..
فنهض المتحدث
بلسان هذه المجموعة وقال: نشكو منه أربعا:
" لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار..
ولا يجيب أحدا
بليل..
وله في الشهر
يومان لا يخرج فيهما
إلينا ولا نراه,
وأخرى لا حيلة له
فيها ولكنها تضايقنا, وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين"..
وجلس الرجل:
وأطرق عمر مليا,
وابتهل إلى الله همسا قال:
" اللهم إني أعرفه من خير عبادك..
اللهم لا تخيّب
فيه فراستي"..
ودعاه للدفاع عن
نفسه, فقال سعيد:
أما قولهم
إني لا
أخرج إليهم حتى يتعالى النهار..
" فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب.. انه ليس لأهلي خادم, فأنا أعجن عجيني,
ثم أدعه يختمر, ثم اخبز خبزي, ثم أتوضأ للضحى, ثم أخرج
إليهم"..
وتهلل وجه عمر
وقال: الحمد لله.. والثانية..؟!
وتابع سعيد
حديثه:
وأما قولهم: لا
أجيب أحدا بليل..
فوالله, لقد كنت
أكره ذكر السبب..
إني جعلت النهار لهم,والليل لربي"..
أما قولهم:
إن لي
يومين في الشهر لا أخرج فيهما...
" فليس لي خادم يغسل ثوبي, وليس بي ثياب أبدّلها, فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر
أن يجف بعد حين.. وفي آخر النهار أخرج اليهم ".
وأما قولهم:
إن
الغشية تأخذني بين الحين والحين..
" فقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة, وقد بضعت قريش لحمه, وحملوه على جذعه,
وهم يقولون له: أحب أن محمدا مكانك, وأنت سليم معافى..؟ فيجيبهم قائلا: والله ما
أحب أني في أهلي وولدي, معي عافية الدنيا ونعيمها, ويصاب رسول الله بشوكة..
فكلما ذكرت ذلك
المشهد الذي رأيته أنا يومئذ من المشركين, ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومها, أرتجف
خوفا من عذاب الله, ويغشاني الذي يغشاني"..
وانتهت كلمات
سعيد التي كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة..
ولم يمالك عمر
نفسه ونشوه, فصاح من فرط حبوره.
" الحمد لله الذي لم يخيّب فراستي".!
وعانق سعيدا,
وقبّل جبهته المضيئة العالية...
أي حظ من الهدى ناله هذا الطراز من
الحق..؟
أي معلم كان رسول
الله..؟
أي نور نافذ, كان
كتاب الله..؟؟
وأي مدرسة ملهمة
ومعلمة, كان الإسلام..؟؟
ولكن, هل تستطيع
الأرض أن تحمل فوق ظهرها عددا كثيرا من هذا الطراز..؟؟
انه لو حدث هذا,
لما بقيت أرضا,
إنها تصير فردوسا..
أجل تصير الفردوس
الموعود..
ولما كان الفردوس
لم يأت زمانه بعد فان الذين يمرون بالحياة ويعبرون الأرض من هذا الطراز المجيد
الجليل.. قليلون دائما ونادرون..
وسعيد بن عامر
واحد منهم..
كان عطاؤه وراتبه
بحكم عمله ووظيفته, ولكنه كان يأخذ منه ما يكفيه وزوجه.. ثم يوزع باقيه على بيوت
أخرى فقيرة...
ولقد قيل له
يوما:
" توسّع بهذا الفائض على أهلك وأصهارك"..
فأجاب قائلا:
" ولماذا أهلي وأصهاري..؟
لا والله ما أنا
ببائع رضا الله بقرابة"..
وطالما كان يقال له:
" توسّع وأهل بيتك في النفقة وخذ من طيّبات الحياة"..
ولكنه كان يجيب
دائما, ويردد أبدا كلماته العظيمة هذه:
" ما أنا بالمتخلف عن الرعيل الأول, بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: يجمع الله عز وجل الناس للحساب,
فيجيء فقراء المؤمنين يزفون كما تزف
الحمام, فيقال لهم: قفوا للحساب, فيقولون: ما كان لنا شيء نحاسب عليه.. فيقول
الله: صدق عبادي.. فيدخلون الجنة قبل الناس"..
وفي العام العشرين من الهجرة, لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة, وأتقى ما
يكون قلبا, وأنضر ما يكون سيرة..
لقد طال شوقه
إلى
الرعيل الأول الذي نذر حياته لحفظه وعهده, وتتبع خطاه..
أجل لقد طال شوقه
إلى رسوله ومعلمه.. والى رفاقه الأوّابين المتطهرين..
واليوم يلاقيهم
قرير العين, مطمئن النفس, خفيف الظهر..
ليس معه ولا
وراءه من أحمال الدنيا ومتاعها ما يثقل ظهره وكاهله,,
ليس معه
إلا
ورعه, وزهده, وتقاه, وعظمة نفسه وسلوكه..
وفضائل تثقل
الميزان, ولكنها لا تثقل الظهور..!!
ومزايا هز بها
صاحبها الدنيا, ولم يهزها غرور..!!
سلام على سعيد بن عامر..
سلام عليه في
محياه, وأخراه..
وسلام.. ثم سلام
على سيرته وذكراه..
وسلام على الكرام البررة.. أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.