يتبع غزوة احد
مصرع أسد اللَّه حمزة بن عبد المطلب:يقول
قاتل حمزة وحشي بن حرب كنت غلاماً لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة ابن عدي
قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير إنك إن قتلت حمزة عم
محمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس - وكنت رجلاً حبشياً أقذف
بالحربة قذف الحبشة قلما أخطىء بها شيئاً - فلما التقى الناس خرجت أنظر
حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هداً ما
يقوم له شيء. فواللَّه إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو
مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال له هلم إلي يا
ابن مقطعة البظور - وكانت أمه ختانة - قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه.
قال:
وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثنته - أحشائه - حتى
خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم
أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر، فقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة،
وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة اعتقت.
السيطرة على الموقف:وبرغم
هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد اللَّه وأسد رسوله حمزة
بن عبد المطلب، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله، فقد قاتل يومئذ أبو
بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير
وطلحة بن عبيد اللَّه، وعبد اللَّه بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة،
وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فل عزائم المشركين، وفتت في
أعضادهم.
من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة:وكان
من الأبطال المغامرين يومئذ حنظلة الغسيل، وهو حنظلة بن أبي عامر، وأبو
عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق والذي مضى ذكره قريباً - كان حنظلة
حديث عهد بالعرس، فلما سمع هواتف الحرب. وهو على امرأته انخلع من أحضانها،
وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق
الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب، وكاد يقضي عليه
لولا أن أتاح اللَّه له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان فلما استعلاه وتمكن
منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله.
نصيب فصيلة الرماة في المعركة:وكانت
للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في
إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن
الوليد يسانده أبو عامر الفاسق، ثلاث مرات ليحطموا جناح الجيش الإسلامي
الأيسر حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في
صفوفهم، وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى
فشلت هجماتهم الثلاث.
الهزيمة تنزل بالمشركين:هكذا
دارت رحى الحرب الزبون، وظل الجيش الإسلامي الصغير مسيطراً على الموقف
كله، حتى خارت عزائم أبطال المشركين، وأخذت صفوفهم تتبدد عن اليمين والشمال
والأمام والخلف، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم لا بضع مئات
قلائل، وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين.
وبعد أن بذلت قريش
أقصى جهدها لصد هجوم المسلمين أحست بالعجز والخور، وانكسرت همتها - حتى لم
يجترىء أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل صواب فيحمله ليدور
حوله القتال - فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار، ونسيت ما كانت تتحدث
به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام، وإعادة العز والمجد والوقار.
قال
ابن إسحاق ثم أنزل اللَّه نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف
حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها. روى عبد اللَّه بن
الزبير عن أبيه أنه قال: واللَّه لقد رأيتني أنظر إلى خدم - سوق - هند بنت
عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير.. الخ وفي حديث
البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء
يشتددن في الحبل، يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن. وتبع المسلمون المشركين
يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم.
غلطة الرماة الفظيعة:وبينما
كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخرى نصراً ساحقاً على مكة لم يكن أقل
روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة
فظيعة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت
تكون سبباً في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تركت أسوأ أثر على
سمعتهم، والهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر.
لقد أسلفنا نصوص
الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء
الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال بالنصر أو الهزيمة لكن على رغم
هذه الأوامر المشددة، لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم
العدو، غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض الغنيمة، الغنيمة،
ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟
أما قائدهم عبد اللَّه بن جبير، فقد ذكرهم
أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم ؟
ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً،
وقالت: واللَّه لنأتين الناس فلنصيبين من الغنيمة. ثم غادر أربعون رجلاً من
هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل والتحقوا بسواد الجيش ليشاركوه في جمع
الغنائم. وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من
أصحابه، التزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا.
خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي:وانتهز
خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فاستدار بسرعة خاطفة حتى وصل إلى
مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد اللَّه بن جبير وأصحابه، ثم
انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف المشركون المنهزمون
بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم - وهي عمرة بنت
علقمة الحارثية - فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله
المشركون ولاثوا به، وتنادى بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين وثبتوا
للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شقي الرحى.
موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق:وكان
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة - تسعة نفر من
أصحابه - في مؤخرة المسلمين، كان يراقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين
إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان، إما أن ينجو -
بالسرعة - بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى
مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخد بهم
جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد.
وهناك تجلت عبقرية
الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي
أصحابه: عباد اللَّه، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه
المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق.
وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون.
تبدد المسلمين في الموقف:أما
المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا
أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا
وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى
فوق الجبل، ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران، فلم
يتميزوا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض، روى البخاري عن عائشة قالت:
لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس أي عباد اللَّه
أخراكم - أي احترزوا من ورائكم - فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر
حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد اللَّه أبي أبي. قالت:
فواللَّه ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة يغفر اللَّه لكم. قال: عروة
فواللَّه ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق باللَّه.
وهذه الطائفة حث
داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها الكثيرون، لا يدرون أين
يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح إن محمداً قد قتل. فطارت
بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من
أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقى بأسلحته مستكيناً، وفكر
آخرون في الاتصال بعبد اللَّه بن أبي - رأس المنافقين - ليأخذ لهم الأمان
من أبي سفيان.
ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما
تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قال: ما تصنعون
بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم ، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ
إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي يا
أبا عمر؟ فقال أنس واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل
القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته - بعد نهاية المعركة - ببنانه، وبه
بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف ورمية بسهم.
ونادى ثابت بن
الدحداح قومه فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن اللَّه حي لا
يموت، قاتلوا على دينكم، فإن اللَّه مظفركم وناصركم. فنهض إليه نفرمن
الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد، فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد
بالرمح، وقتل أصحابه.
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط
في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري إن كان محمد
قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم.
وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت
إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن
فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات
المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل
النبي صلى الله عليه وسلم كذب مختلق، فزاد ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في
الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع بعد أن باشروا القتال
المرير، وجالدوا بضراوة بالغة.
وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم ، وعمل التطويق في بدايته وفي مقدمة هؤلاء أبو بكر
الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وغيرهم رضي اللَّه عنهم، كانوا
في مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة - عليه الصلاة
والسلام - صاروا في مقدمة المدافعين.
يتبع غزوة احد
احتدام القتال حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :وبينما
كانت تلك الطوائف تتلقى أواصر التطويق، تطحن بين شقى رحى المشركين، كان
العراك محتدماً حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرنا أن
المشركين لما بدأوا عمل التطويق لم يكن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
إلا تسعة نفر، فلما نادى المسلمين هلم إلي، أنا رسول اللَّه، سمع صوته
المشركون وعرفوه فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه
أحد من جيش المسلمين فجرى بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة
عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة.
روى مسلم
عن أنس بن مالك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من
الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو
رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضاً فلم
يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لصاحبيه -
أي القرشيين - ما أنصفنا أصحابنا.
وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السكن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط.
أحرج ساعة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم :وبعد
سقوط ابن السكن بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في القرشيين فقط، ففي
الصحيحين عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك
الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة بن عبيد اللَّه وسعد بن أبي وقاص. وكانت
أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وفرصة ذهبية
بالنسبة إلى المشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا
حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن
أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكلمت شفته
السفلى وتقدم إليه عبد اللَّه بن شهاب الزهري، فشجه في جبهته. وجاء فارس
عنيد عبد اللَّه بن قمئة فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر
من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه
وسلم ضربة أخرى عنيفة كالأولى حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته،
وقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لي وهو
يمسح الدم عن وجهه أقمأك اللَّه.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم
كسرت رباعيته، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول كيف يفلح قوم شجوا
وجه نبيهم، وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى اللَّه، فأنزل اللَّه عز وجل:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
وفي رواية
الطبراني أنه قال يومئذ اشتد غضب اللَّه على قوم دموا وجه رسوله، ثم مكث
ساعة ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وكذا في صحيح مسلم أنه كان
يقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال:
اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون إلى
القضاء على حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا أن القرشيين سعد بن
أبي وقاص وطلحة بن عبيد اللَّه قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة
النظير، حتى لم يتركا - وهما اثنان فحسب - سبيلاً إلى نجاح المشركين في
هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم .
فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم كنانته وقال: ارم فداك أبي وأمي. ويدل على مدى
كفاءته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد.
وأما
طلحة بن عبيد اللَّه فقد روى النسائي عن جابر قصة تجمع المشركين حول رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، قال جابر فأدرك المشركون
حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: من للقوم، فقال طلحة أنا، ثم ذكر
جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحداً بعد واحد بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم
فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة، قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر
حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حسن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو
قلت بسم اللَّه لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، قال: ثم رد اللَّه المشركين
ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً
وثلاثين وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها.
وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء، وفي بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: من ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد اللَّه.
وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة.
وقال فيه أبو بكر أيضاً:يا طلحة بن عبيد اللَّه قد وجبت لك الجنان وبوأت المها العينا
وفي
ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل اللَّه نصره بالغيب، ففي الصحيحين
عن سعد، قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان
يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. وفي
رواية يعني جبريل وميكائيل
غزوة الاحزاب
خرج
عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم
على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم ، يوالونهم عليه، ووعدهم من أنفسهم
بالنصر لهم فأجابتهم قريش، وقريش قد أخلفت وعدها في الخروج إلى بدر فرأت في
ذلك إنقاذ سمعتها والبر بكلمتها.
ثم خرج هذا الوفد إلى غطفان، فدعاهم
إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم
إلى ذلك، فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب
أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته والمسلمين.
وفعلا خرجت
من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة - وقائدهم أبو سفيان - في
أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت من الشرق قبائل غطفان بنو
فزارة، يقودهم عيينة بن حصن، وبنو مرة، يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع
يقودهم مسعر بن رخيلة كما خرجت بنو أسد وغيرها.
واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه.
وبعد
أيام تجمع حول المدينة جيش عرمرم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل. جيش ربما
يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ.
ولو
بلغت هذه الأحزاب المحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتتة لكانت
أعظم خطر على كيان المسلمين مما يقاس، ربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة
الخضراء ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة، لم تزل واضعة أناملها على
العروق النابضة، تتجسس الظروف وتقدر ما يتمخض عن مجراها، فلم تكد تتحرك هذه
الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذا
الزحف الخطير
وسارع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس
استشاري أعلى، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات
جرت بين القادة وأهل الشورى اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان
الفارسي رضي اللَّه عنه. قال سلمان يا رسول اللَّه، إنا كنا بأرض فارس إذا
حوصرنا خندقنا علينا - وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك.
وأسرع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الخطة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً.
وقام
المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحثهم
ويساهمهم في عملهم هذا. ففي البخاري عن سهل بن سعد، قال: كنا مع رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على
أكتادنا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار
كان
المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع، ما يفتت الأكباد
قال أنس: (كان أهل الخندق) يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم باهالة سخنة
توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي لشعة في الحلق ولها ريح.
وقال
أبو طلحة شكونا النبي صلى الله عليه وسلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
عن حجرين.
وبهذه المناسبة وقع في حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأى
جابر بن عبد اللَّه في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً فذبح بهيمة
وطحنت امرأته صاعاً من شعير ثم التمس من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
سراً أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل
الخندق، وهم ألف فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت برمة اللحم تغط به كما
هي، وبقي العجين يخبز كما هو وجاءت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر إلى
الخندق ليتغدى أبوه وخاله، فمرت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فطلب منها
التمر وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق فجعلوا يأكلون منه. وجعل التمر
يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثوب
وأعظم من هذين
ما رواه البخاري عن جابر قال: إنا يوم خندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاؤوا
النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: أنا نازل،
ثم قام وبطنه معصوب بحجر - ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقاً - فأخذ النبي صلى
الله عليه وسلم المعول، فضرب فعاد كثيباً أهيل أو أهيم أي صار رملاً لا
يتماسك.
وقال البراء لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا
تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فجاء
وأخذ المعول فقال: بسم اللَّه ثم ضرب ضربة، وقال: اللَّه أكبر، أعطيت
مفاتيح الشام واللَّه إني لأنظر قصورها الحمر الساعة ثم ضرب الثانية فقطع
آخر، فقال: اللَّه أكبر أعطيت فارس واللَّه إني لأبصر قصر المدائن الأبيض
الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم اللَّه فقطع بقية الحجر، فقال: اللَّه
أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، واللَّه إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني.
وأقبلت
قريش في أربعة آلاف، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزعابة،
وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذنب نقمي إلى
جانب أحد.{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا
زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
وأما المنافقون
وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش: {وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
وخرج رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع فتحصنوا
به، والخندق بينهم وبين الكفار. وكان شعارهم هم لا ينصرون، واستخلف على
المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة.
ولما
أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقاً عريضاً يحول
بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لم يكونوا
مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة - كما قالوا - مكيدة ما
عرفتها العرب. فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً.
وأخذ المشركون
يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة ضعيفة، لينحدروا منها، وأخذ
المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل، حتى لا يجترئوا على
الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليه التراب، ليبنوا به
طريقاً يمكنهم من العبور.
وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة
بليغة، لاقتحام الخندق، أو لبناء الطرق فيها، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة
مجيدة، ورشقوهم بالنبل وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم.
ولأجل
الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم والمسلمين، ففي الصحيحين عن جابر رضي اللَّه عنه أن عمر بن
الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش، فقال: يا رسول اللَّه ما كدت
أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا
واللَّه ما صليتها، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ
للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب.
وقد
استاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا على
المشركين ففي البخاري عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم
الخندق ملأ اللَّه عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى
حتى غابت الشمس.
وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر
والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً. قال النووي وطريق الجمع بين هذه
الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في
بعضها. انتهى.
ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة
المتواصلة من المسلمين دامت أياماً، إلا أن الخندق لما كان حائلاً بين
الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر وحرب دامية، بل اقتصروا على المراماة
والمناضلة.
وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين، يعدون على الأصابع
ستة من المسلمين وعشرة من المشركين، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم
بالسيف.
وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي اللَّه عنه بسهم فقطع منه
الأكحل، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة، فدعا سعد اللهم إنك
تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه،
اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش
شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي
فيها وقال في آخر دعائه ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
وبينما
كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس
والتآمر تتقلب في جحورها، تريد إيصال السم داخل أجسادهم. انطلق كبير مجرمي
بني النضير إلى ديار بني قريظة فأتى كعب بن أسد القرظي - سيد بني قريظة،
وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أن
ينصره إذا أصابته حرب كما تقدم - فضرب عليه حيي الباب فأغلقه كعب دونه، فما
زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حيي إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر
طام. جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رومة،
وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد، قد
عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه.
فقال له
كعب جئتتي واللَّه بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق ليس فيه
شيء. ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً
ووفاءً.
فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمح له على أن
أعطاه عهداً من اللَّه وميثاقاً لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً
أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده وبرىء مما
كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين.
وقد
كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول صلى الله عليه وسلم أثر عميق في حفظ
ذرارى المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في
منعة من الجيش الإِسلامي - مع أنها كانت خالية عنهم تماماً - فلم يجترئوا
مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين
بالمؤن كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون من
مؤنهم عشرين جملاً.
وانتهى الخبر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه، حتى يستجلي موقف قريظة فيواجهه بما يجب من
الوجهة العسكرية، وبعث لتحقيق الخبر السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة
وعبد اللَّه بن رواحة وخوات بن جبير، وقال: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما
بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا
تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس. فلما دنوا
منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة ونالوا من رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم . وقالوا: من رسول اللَّه؟ لا عهد بيننا وبين
محمد، ولا عقد فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم لحنوا له، وقالوا: عضل وقارة، أي أنهم على غدر، كغدر عضل وقارة بأصحاب
الرجيع.
يتبع غزوة الاحزابوقد
كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من
ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف
عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ،
وصاروا كما يقول اللَّه تعال: {وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ
الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب:
10-11] ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز
كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لايأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وحتى قال
بعض آخر في ملأ من رجال قومه إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا أن نخرج،
فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج المدينة، وحتى همت بنو سلمة بالفشل وفي هؤلاء
أنزل اللَّه تعال: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا *
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ
فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ
بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا}
[الأحزاب: 12-13].
أما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه
حين أتاه غدر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم
غلبته روح الأمل فنهض يقول اللَّه أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح
اللَّه ونصره، ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن، وكجزء من هذه الخطة كان
يبعث الحرس إلى المدينة لئلا يؤتى الذراري والنساء على غرة، ولكن كان لا بد
من إقدام حاسم، يفضي إلى تخاذل الأحزاب، وتحقيقاً لهذا الهدف أراد أن
يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى
ينصرفا بقومهما، ويخلوا المسلمون لإِلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة على قريش
التي اختبروا مدى قوتها وبأسها مراراً، وجرت المراوضة على ذلك، فاستشار
السعدين في ذلك، فقالا يا رسول اللَّه إن كان اللَّه أمرك بهذا فسمعاً
وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم
على الشرك باللَّه وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا
قرى أو بيعا، فحين أكرمنا اللَّه بالإِسلام وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم
أموالنا؟ واللَّه لا نعطيهم إلا السيف، فصوب رأيهما وقال: إنما هو شيء
أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة.
ثم إن اللَّه عز
وجل - وله الحمد - صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم، وفل حدهم،
فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر
الأشجعي - رضي اللَّه عنه - جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول اللَّه إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت،
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما
استطعت فإن الحرب خدعة، فذهب من فوره إلى بني قريظة - وكان عشيراً لهم في
الجاهلية - فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم،
قالوا: صدقت قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم
وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد
جاؤوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغوه
فإن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منك،
قالوا فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا:
لقد أشرت بالرأي.
ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم تعلمون
ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من
نقض عهد محمد وأصحابه وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها
إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان،
فقال لهم مثل ذلك.
فلما كان ليلة السبت من شوال - سنة 5هـ - بعثوا
إلى يهود أنا لسنا بأرض مقام وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز
محمداً، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من
قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن.
وفلما جاءتهم رسهلم بذلك قالت قريش وغطفان صدقكم واللَّه نعيم، فبعثوا إلى
يهود أنا واللَّه لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً.
فقالت قريظة صدقكم واللَّه نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم،
وخارت عزائمهم.
وكان المسلمون يدعون اللَّه تعالى: اللهم استر
عوراتنا وآمن روعاتنا ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الأحزاب،
فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم
وزلزلهم.
وقد سمع اللَّه دعاء رسوله والمسلمين فبعد أن دبت الفرقة
في صفوف المشركين وسرى بينهم التخاذل أرسل اللَّه عليهم جنداً من الريح
فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدراً إلا كفأتها، ولا طنباً إلا قلعته،
ولا يقر لهم قرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم
الرعب والخوف.
وأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة
الباردة القارصة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد
تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأخبره برحيل
القوم، فأصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد رد اللَّه عدوه بغيظه لم
ينالوا خيراً وكفاه اللَّه قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، فرجع
إلى المدينة.
وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح
القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمين
شهراً أو نحو شهر، ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت
في شوال، ونهايته في ذي القعدة، وعند ابن سعد أن انصراف رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.