أما هو فأول ما رآها.... تقلب وجهه بين فرح برجوعها سالمة .. واستغراب من لباسها الأسود الذي يغطي كل شيء .. دخلت زوجتي وهي تبتسم .. وتعانق أخاها .. ودخلْتُ وراءها .. وجلسْتُ في صالة المنزل ..
جلست وحيداً ..أما هي .. فدخلت داخل البيت ..
أسمعها تتكلم معهم باللغة الروسية .. لم أفهم شيئاً ..
لكنني لاحظت أن نبرات الصوت بدأت تزداد حدة !! واللهجة تتغير !! والصراخ يعلو !!
وإذا كلهم يصرخون بها .. وهي تدافع هذا .. وترد على ذاك ..
فأحسست أن الأمر فيه شر !
ولكنني لا أستطيع أن أجزم بشيء لأني لم أفهم من كلامهم شيئاً ..
وفجأة بدأت الأصوات تقترب من الغرفة التي أنا فيها ..
وإذا بثلاثة من الشباب .. يتقدمهم رجل كهل .. يدخلون علي ..
توقعت في البداية أنهم سيرحبون بزوج ابنتهم !
وإذا بهم يهجمون عليَّ كالوحوش ..
وإذا بالترحيب ينقلب إلى لكمات .. وضربات .. وصفعات ..!!!
أخذت أدافعهم عن نفسي .. وأصرخ وأستغيث ..
حتى خارت قواي .. وشعرت أن نهايتي في هذا البيت ..
ازدادوا لكماً وركلاً .. وأنا أتلفت حولي .. أحاول أن أتذكر أين الباب الذي دخلت منه لأهرب منه ..
فلما رأيت الباب ..
قمت سريعاً .. وفتحتُ الباب وهربت ..
وهم ورائي .. فدخلت في زحمة الناس .. حتى غبت عنهم ..
ثم اتجهت إلى غرفتي .. وكانت ليست ببعيدة عن المنزل ..
وقفت أغسل الدماء عن وجهي وفمي ..
نظرت إلى نفسي وإذا .. بالضربات والصفعات ..
قد أثّرت في جبهتي وخدّي وأنفي ..
وإذا بالدم يسيل من فمي .. وثيابي ممزقة ..
حمدت الله أن أنقذني من أولئك الوحوش ..
لكني قلت .. أنا نجوت لكن ما حال زوجتي ؟!
أخذت صورتها تلوح أمام ناظري ..
هل يمكن أن تتعرض هي أيضاً لمثل هذه اللكمات والضربات ..
أنا رجل .. وما كدت أتحمل .. وهي امرأة فهل ستتحمل !!
أخشى أن تنهار المسكينة ..
هل حان الفراق ؟
بدأ الشيطان يعمل عمله .. ويقول لي : سترتد عن دينها .. ستعود نصرانية .. وتعود إلى بلدك وحدك ..
وبقيت حائراً .. ماذا أفعل ؟ في هذه البلاد .. أين أذهب .. كيف أتصرف ..
النفس في هذا البلد رخيصة .. يمكنك أن تستأجر رجلاً لقتل آخر بعشرة دولارات !
أوه .. كيف لو عذبوها فدلتهم على مكاني .. فأرسلوا أحداً لقتلي في ظلمة الليل ..
أقفلت عليَّ غرفتي ..
وبقيت فيها فزعاً خائفاً حتى الصباح ..
ثم غيرت ملابسي .. وذهبت أتجسَّس الأخبار ..
أنظر إلى بيتهم عن بعد .. أرقبه .. وأتابع كل ما يحصل فيه ..
لكن الباب مغلق .. ظللت أنتظر ..
وجأة .. فُتح الباب .. وخرج منه ثلاثة من الشباب .. وكهل ..
وهؤلاء الشباب هم الذين ضربوني ..
يبدوا من هيأتهم .. أنهم ذاهبون إلى أعمالهم ..
أُغلق الباب وأُقفل !
وبقيت أرقب .. وأترقب .. وأنظر ..
وأتمنى أن أرى وجه زوجتي .. ولكن لا فائدة ..
ظللت على هذا الحال ساعات ..
وإذا بالرجال يقدمون من عملهم ويدخلون البيت ..
تعبت .. فذهبت إلى غرفتي ..
وفي اليوم الثاني .. ذهبت أترقب .. ولم أر زوجتي ..
وفي اليوم الثالث كذلك ..
يئِست من حياتها .. توقعت أنها ماتت من شدة العذاب .. أو قُتلت !
ولكن لو كانت ماتت .. فعلى الأقل سيكون هناك حركة في البيت .. سيكون هناك من يأتي للعزاء .. أو الزيارة ..
لكني عندما لم أر شيئاً غريباً .. أخذت أقنع نفسي أنها حية .. وأن اللقاء سيكون قريباً ..
اللقاء ..
وفي اليوم الرابع .. لم أصبر على الجلوس في غرفتي ..
فذهبت أرقب بيتهم من بعيد ..
فلما ذهب الشباب مع أبيهم إلى أعمالهم .. كالعادة .. وأنا أنظر وأتمنى .. فإذا بالباب يُفتح فجأة ..
وإذا بوجه زوجتي يطل من ورائه ..
وإذا بها تلتفت يمنة ويسرة ..
نظرت إلى وجهها .. فإذا به دوائر حمراء .. ولكمات زرقاء .. من كثرة الصفعات والكدمات .. وإذا لباسها مخضَّب بالدماء ..
فزعت من منظرها .. ورحمتها ..
اقتربت منها مسرعاً ..
نظرت إليها أكثر .. فإذا الدماء تسيل من جروح في وجهها ..
وإذا يداها .. وقدماها .. تسيل بالدماء ..
وإذا ثيابها ممزقة .. لم يبق منها إلا خرقة بسيطة تسترها ..
وإذا بأقدامها مربوطة بسلسلة !
وإذا بيديها مربوطة بسلسلة من خلف ظهرها ..
لما رأيتها .. بكيت .. لم أستطع أن أتمالك نفسي ..
ناديتها من بعيد ..
ثبات .. ووصايا ..
فقالت لي وهي تدافع عبراتها .. وتئن من شدة عذابها : اسمع يا خالد ..
لا تقلق عليَّ .. فأنا ثابتة على العهد ..
ووالله الذي لا إله إلا هو .. إن ما أُلاقيه الآن ..
لا يساوي شعرة مما لاقاه الصحابة والتابعون .. بل والأنبياء والمرسلون ..
وأرجوك يا خالد .. لا تتدخل بيني وبين أهلي ..
واذهب الآن سريعاً .. وانتظر في الغرفة ..
إلى أن آتيك إن شاء الله ..
ولكن أكثر من الدعاء .. أكثر من قيام الليل .. أكثر من الصلاة ..
ذهَبتُ من عندها .. وأنا أتقطع ألماً وحسرة عليها ..
وبقيت في غرفتي يوماً كاملاً أترقبها .. وأتمنى مجيئها ..
ومرة يوم آخر ..
وبدأ اليوم الثالث يطوي بساطه .. حتى إذا أظلم الليل ..
وإذا بباب الغرفة يُطرق عليَّ ؟
فزعت .. من بالباب ؟! من الطارق ..
أصبت بخوف شديد .. مَن الذي يأتي في منتصف الليل !!
لعل أهلها علموا بمكاني ..
لعل زوجتي اعترفت .. فجاءوا إلي لقتلي ..
أصبت برعب كالموت ..
لم يبق بيني وبين الموت إلا شعرة ..
أخذت أردد قائلاً : من بالباب ؟